منذ 37 عاماً لم يخلع اللون الأصفر وترشّح لغينيس.. ما لا تعرفه عن الرجل الأصفر “أبوزكور الحلبي” (صور)
عاد الرجل الأصفر إلى شوارع حلب بعد أن كان قبل الحرب علامة فارقة وظاهرة بحد ذاتها تميز المدينة عن غيرها من المدن السورية تماما كالأسواق القديمة والقلعة، يسعى الناس والسياح لأخذ صورة تذكارية معه، وإلى الآن مازال الغموض يحوم حوله ولم يبرئه الشارع الحلبي من إشاعات الناس وتكهناتهم.
حلب (سوريا) – مرتديا اللون الأصفر من رأسه إلى أخمص قدميه، يضفي أبوزكور أو الرجل “الأصفر” الطويل القامة وفي السبعينات من عمره، إشعاعا على مدينة حلب في شمال سوريا حيث بات أشبه بمعالمها الرئيسية كالقلعة الأثرية والسوق القديمة.
ما أن تطأ قدماه ساحة سعدالله الجابري وسط المدينة حتى يتجمع العشرات حوله طمعا في التقاط صورة معه أو مصافحته والتحدّث إليه، ولا يمانع الرجل ذو الشاربين الأبيضين في الوقوف معهم وملاعبة الأطفال الصغار.
ويتكرر المشهد في أي مكان يسير فيه عبدالحميد، الرجل الذي اعتاد ارتداء الملابس الصفراء منذ أكثر من 36 سنة، حتى ذاع صيته في كل المدينة واشتهر بين الكبار والصغار، وهو الآن يطمح إلى دخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية.
يقول “أحتاج إلى مدة تزيد عن ساعتين لاجتياز شارع لا يتجاوز الكيلومتر الواحد لكثرة الأشخاص الذين يستوقفونني ويريدون أن يتصوروا معي”.
ويضيف “الشعب السوري يحبني لأنني وطني جدا، لم أغادر سوريا على الرغم من الأحداث التي شهدتها وعلى الرغم من الإهانات التي تعرضت لها”.
ويوضح “لبست الأصفر منذ العام 1983، ولم أخلعه حتى اليوم.. كل تفاصيلي مكسوّة بالأصفر؛ ملابسي وهاتفي المحمول ووسادتي ومسبحتي وساعاتي وأحبّ كثيرا هذا التميّز”.
ويعلل حبه لهذا اللون مستشهدا بآية قرآنية من سورة البقرة “قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا، قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ”.
وباستثناء وجهه ويديه، يكسو الأصفر أبوزكور بشكل كامل؛ قبعته وقميصه وسترته وسرواله وساعته وخلفية هاتفه وحتى جواربه وحذاءه.
وعندما يقرر أن يتناول ما يسد رمقه أثناء جلوسه على مجسم كلمة “أحب حلب” باللغة الإنكليزية، يختار عرنوسا من الذرة الصفراء.
صنع أحد أصحاب المطاعم تمثالا للرجل ووضعه وسط المطعم وكتب على الجدار فوقه عبارة “ترامب حلب”
ولد أبوزكور في مدينة حلب سنة 1956 ودرس فيها حتى الثانوية العامة، ثم توقف عن متابعة تحصيله العلمي حيث كان يحلم بدراسة هندسة الميكانيك ليساهم في تطوير وتنمية بلاده.
ويهوى أبوزكور رياضة الجري حيث يجري يوميا لمدة ساعتين بين السادسة والثامنة صباحا، ويشجع المنتخب السوري لكرة القدم، ومن الفرق الأجنبية يشجع ريال مدريد وبرشلونة، كما يحب القراءة والمطالعة وتحليل الأخبار وخاصة السياسية. في حي المعري وسط حلب يقطن أبوزكّور وحيدا بعد وفاة زوجته وسفر أولاده الثلاثة، في بيت صغير تتدلى من شرفته ملابس داخلية صفراء لم تجف بعد. وعند مدخل المنزل، عدد من الأحذية الصفراء وداخله الكراسي واللوحات صفراء أيضا.
ويقول أبوزكور بعدما فتح خزانة ملابسه حيث علق ستراته وقمصانه التي تتدرج ألوانها بالأصفر، “لدي مئة قطعة من الملابس الصفراء، من سراويل وقبعات وقمصان ونظارات وربطات عنق” وسواها.
ويضيف هذا الموظف المتقاعد “واجهت صعوبة كبيرة في جمع هذه الثروة، ولا أعتقد أن أحدا يستطيع فعل ذلك”، لكنه يمتنع عن كشف السر خلف ارتدائه هذا اللون وسبب تفضيله عن سواه. ويقول إنه دوّن في وصيته السبب الذي لن يكشف إلا بعد وفاته.
ويندر سؤال أي من سكان حلب عن أبوزكور دون أن يتعرّف إليه، كما لو أنه من معالم المدينة.
وتكريما له، صنع أحد أصحاب المطاعم تمثالا له ووضعه في وسط قاعة المطعم وكتب على الجدار فوقه عبارة “ترامب حلب”، محاولا جذب المزيد من الزبائن.
وقرب تمثال أبوزكور، وضع صاحب المطعم صورة كبيرة للفنان الحلبي صباح فخري وخلفها صورة لقلعة حلب الشهيرة. ويقول مدير المطعم مجدي شرشفجي “أبوزكور جزء من التراث الحلبي، لذلك وضعناه إلى جانب رموز المدينة”.
ويزدحم المطعم فور دخول الرجل الأصفر إليه، ويبادر عدد من الزبائن لالتقاط الصور معه بينما يتأمل أبوزكور تمثاله لترتسم ابتسامة عريضة على وجهه.
ويتنقل أبوزكور كثيرا بين المحلات الواقعة وسط المدينة حيث ينشر البسمة والتفاؤل على جميع الوجوه، وهو كما قال يحب كل الناس والناس كلهم يحبونه وهو يسعد كثيرا لأنه ينشر الابتسامة على الوجوه وخاصة وجوه الأطفال فهو يحبهم كثيرا ويشجعهم على العلم والدراسة من خلال تقديم بعض الهدايا الرمزية لمن يعرفونه ويحبونه، فكثيرا ما يأتي إليه الأطفال حاملين صحفهم المدرسية (الجلاء المدرسي) طالبين منه الهدايا التي وعدهم بها.
ورغم شهرته الواسعة، يلفّ الغموض الكثير من تفاصيل الرجل الأصفر الذي لا يخفي حبه للشهرة ومحبة الناس له.
ولم يسلم من الشائعات التي يؤلفها سكان المدينة حوله، كما لم يسلم من المعارك التي شهدتها حلب منذ صيف العام 2012 حتى أواخر العام 2016.
ومن الشائعات الخطيرة التي لحقت به، تسييره لأمور الدعارة التي ينفيها بشدة قائلا “طريقة حديثي مع النساء اللاتي يتصورن ويضحكن معي تخلق جوا من الأقاويل والأفكار السيئة لكون الناس يهتمون بالظاهر فقط، إضافة إلى أن الشخص الذي يعمل في هذا المجال يجب أن يكون لديه مال كاف لإسرافه على هكذا أمور”، ويستفسر بقوله “هل من المعقول ألا تراني الحكومة بما أنني أمارس مهنتي منذ ربع قرن؟”.
وقبل الحرب كان الرجل الأصفر لا يفارق ساحة ساعة حلب في باب الفرج، المعلم التراثي الهام مرورا بالشوارع والأزقة القديمة وسط المدينة المليئة بالتراث والأسواق التجارية، ليظهر مجددا بعد اختفاء طويل.
ويسافر أبوزكور كثيرا بين المحافظات وخاصة دمشق، لذلك تكثر الشائعات حوله والتي يقول عن بعضها إنها مضحكة وغير صحيحة، مؤكدا أن لا علاقة بين لباسه وبين عمله والاثنان سر يفضل أن يحتفظ به لنفسه.
ويحكي الرجل الأصفر أن مجموعة مسلحة داهمت بيته واقتادته لمكان مجهول وتم احتجازه لمدة يومين في العام 2013 بعدما اتهمته بالتجسس أو “الفسفسة” لصالح قوات النظام واستخباراته على مدى أكثر من 20 عاما، ولو لا تدخل القدر، كما يقول، لكان الآن في عداد الأموات.
وانتشر حينها شريط فيديو على مواقع التوصل الاجتماعي يظهره داخل سيارة وحوله عدد من المقاتلين الذين يضربونه ويسبونه، ويقومون بنتف شعرات من شاربه، ويوجهون الأسئلة والإهانات إليه بطريقة قاسية جدا.
ويقول “تدخّل العقلاء أنقذني، فبعد انتشار مقطع فيديو لتعذيبي على مواقع التواصل الاجتماعي كانت المفاجأة أنه تم فك قيودي وإخراجي ولولا ذلك لكانت النتيجة الموت المحتم”. ومنذ ذلك الحين اختفى الرجل الأصفر في بيته إلى أن ظهر مؤخرا من جديد بعد أن هدأت الحرب.
ويقول “كانت دعوتي دائما لهم (المجموعة المسلحة) بالتسامح إلى أن أطلق سراحي، لأقرر الجلوس في منزلي سنوات طويلة.. لقد عشت أياما صعبة ولم أغادر سوريا ولا مدينتي حلب”.
ورغم هذه التجربة، يقول “لم أخلع لباسي الأصفر وسأبقى مرتديا هذه الملابس حتى وفاتي”. وظل أبوزكور وفيا لقضيته الصفراء، حيث قال إن مثل هذا الاهتمام من الشوارع والمقابلات التلفزيونية هو عزاء لوحدته بعد وفاة زوجته ورحيل أبنائه خارج البلاد.